محسن الأكرمين.
مظاهر الجمالية.
هو قط يرحب بي عند قدومي ثم عند خروجي من المنزل صباحا. هو قط ليس بالمتشرد، بل بالمدلل في باحة زنقة الحي القصيرة. قط يعيش بيننا على الأنفة والدلال من حسن العناية، فلا تحسبنه إلا أسدا أصفرا مرابط الحضور والتموقع بالحي.
قط ألف أن يجعل من سطح سيارتي مسكنا آمنا، ومتسعا يستمد منه حرارة المحرك الباقية. رؤيتي عن قط الحي المغنج، كانت لا تتغير عن وصفه الخارجي وشعره الوفير بتموج الصفرة والبياض. كنت أغبطه في عنايته بنفسه وجماليته، ومدى الحمية التي يلتزم بها في إطعام نهمه الطبيعي. كنت أبتسم حين أراه يتعفف من الأكل غير المقدم له بالترحيب و المداعبة، ومعاينته وهو يتلذذ بما طاب وأنعم عليه من عطايا ساكنة الحي. من عجيب السلوكيات الدالة أنه كان يلقي التحية على جميع قاطني الحي، يعرف من يعتني به بالوفرة والحنان المفرط. في حين بيننا نحن البشر كساكنة الحي، لا نعير التواصل اهتماما، حتى تبادل التحية بيننا قد أضحت باهتة أو في خبر كان، وبتنا نعيش “التباعد الإجتماعي” والانكماش النووي.
الرعب.
قط الحي الوديع مارس ساديته الحيوانية أمام مشهد من عيوني، حين صادف فأرا صغيرا أوحدا، تغيرت ملامح القط المغنج إلى المدمر، ومارس شدة العنف الجسدي على الفأر الأعزل، مارس عليه القهر و”الحكرة”، مارس عليه القتل المشوه غير الرحيم. هي جوهر مواقف قط الحي الحقيقية غير الملونة بالرياء ومسحة الجمال الظاهري، هي عودته من لحظة التحضر نحو غريزة خطيئة القتل الأولى وغراب قابيل. حينها وقفت عاجز التفكير في تلون المواقف، بين مظاهر الجمال والعنف، وغريزة القتل الأولى و”مرمدة ” الفأر عنوة كأنه لعبة حظ في موسم “لافوار”. إنها حقيقة التحول من الجمال نحو ممارسة الرعب الذي أحدثه قط الحي في مذكرة ذاكرتي.
الخوف.
حط قط الحي رحله بجانبي مزهوا بذاته وما أحدثه من تنكيل ووحشية على الفأر اليتيم. هنا بدأ رأيي للجمال يتزحزح موضعه، فحين اعتقدت من مشهد القط الخارجي جمالا، كان عند الفأر قد عاشه رعبا حقيقيا أفضى به إلى تعداد القتلى والموتى. من شدة فيلم رعب القط، تعلمت أن الحياة مواقف يمكن أن تتغير بالنفعية، ويمكن أن تركب على غرور مفرط بالوصولية وتسجيل ضحايا الهوامش. تفكير جعل من محرك سيارتي يدور إحماء في صبح بارد.
الخوف المزدوج.
حينها وقفت على مشهد آخر رعب آت من رأس الدرب. وقفت على تغير المواقف حسب قوة الذات وضعفها أمام الخصم المفترض، وقفت حين وجدت قط الحي المدلل يحتمي بين أرجلي، وقفت على خوفه الواضح والبين وشعره الذي أضحى منفوشا من شدة ضغط هرمون “الأدرينالين” على جسده لأجل البقاء. قلت لعله خبر مسارات تفكيري وأراد أن يتودد لي بجلسة مصالحة و اعتذار عن مشهد القتل غير الرحيم تجاه الفأر الأعزل !!! لكن حين رمقت كلبا آتيا تبدو عليه قسوة زمن الضياع و”البهدلة” يمر متسكعا، وتحرك الكلب بقوة غريزة العداوة الأولى بين فصيلة الكلاب والقطط، علمت حينها لما ” تمسكن” القط المغنج.
كان القط أكثر ذكاء حين قفز إلى سطح السيارة احتماء، كان يحمل رعبا ولم يقدر على مواجهة الكلب المتشرد في ساحة القتال غير العادلة، كان فطنا لكي لا يصبح وليمة له مثل ما حدث للفأر الضحية.
حكمة حيوانات.
ما تراه حاسة عيونك جمالا، يمكن أن يراه الفأر رعبا، ويمكن أن يراه الكلب وليمة صائغة مع شدة تاريخ الانتقام !!! نعم هي ذي واقعة الجمال والرعب، والخوف التي عايشتها صبحا قبل التوجه إلى موطن عملي. تساءلت بعد أن نبهت الكلب المتشرد بأن القط في حمايتي وفي تواجد خريطة تحالفاتي. حينها أحس القط أن رئيس مجلس أمن الحي قد حماه من حرب خاسرة. ولكن لم ينته الأمر بهروب الكلب المتشرد، بل تساءلت هل المظاهر الخادعة تغنينا عن الحقيقة المفزعة؟ هل يجب أن نقف عند الظواهر دون معرفة مكامن البواطن؟ هنا انطلقت إلى عملي وشياطين الجمال والرعب والخوف في مناوشات حامية الوطيس بين تغليب مظاهر اللب والجوهر كي لا ننخدع بالقشور المتحولة بالتدوير.