كيف دبر مولاي عبدالله الشريف وخلفاؤه شؤونهم الاقتصادية الخاصة والعامة
عبد الاله الوزاني التهامي
نشأ مولاي عبدالله الشريف منذ شبابه على العفاف والغنى عن الغير في تدبير شؤونه المادية والاقتصادية، ابتداءا من مكوثه بمدينة فاس حيث كان يتابع دراسته، فبفضل تركة والده سيدي إبراهيم المتوفى عام (1117ه/1608م) – دفين مقبرة آل وزان ميات والي ووالي-بتزروت، تسنت له فرصة مريحة لمتابعة دراسته بمدينة تطوان ثم بمدينة فاس، فتمتع بتطوان بما يتمتع به الأصلاء من الأهالي، ولبس بالمدرسة المصباحية بفاس الثياب الفاخرة التي لا يلبسها سوى علماء المدينة، واشترى غرفتين خصصها لسكناه الشخصية.وتعفف طوال إقامته بفاس عن أخذ ما يتصدق به الأهالي من راتب أحباس على الطلبة الوافدين من قرى ومدن بعيدة، مكتفيا بما تبعثه له أمه الشريفة الرحمونية مرتين في العام من مال وزاد، وأكثر من هذا فمن دلائل فطنته وذكائه وحنكته وهو لا يزال شابا، استخدامه لطالب في مهام الطبخ والخدمة، حتى لا ينشغل عن طلب العلم بقضاء أغراضه الشخصية بيده.
ومما يذكر استدلالا على استقلالية شخصية مولاي عبدالله الشريف من الناحية الاقتصادية منذ صغره، وراثته عن أبيه لدار سكناه، وعرصة مغروسة بدوالي العنب وأشجار الكرم، وزريبة نحل، ونحو المائتين من المعز، وغابة زيتون، ودابتان، ونحو عشرة من البقر، ونحو مائة مثقال دراهم، وهذا الكم النوعي من الثروة الفردية الخاصة يكفي لأن يجعل من مولاي عبدالله الشريف الشاب رجل ذو مال وذو مكانة متميزة بين أقرانه وبينه وبين محيطه الاجتماعي والاقتصادي.لذلك لم يجد أدنى صعوبة في الفوز بمكانة الصدارة لدى شيخه سيدي علي بن أحمد الصرصري، فكان له الأثر الجلي في تدبير اقتصاديات زاوية صرصر، حيث أسند إليه الشيخ حسب ما ورد في التحفة القادرية جميع أموره الخاصة والعامة، ما يخص الزاوية والمريدين وما يخص نفسه، وأمر المريدين بطاعته ومشاورته، وأمر جميع المقدمين أن يرفعوا هداياهم وجباياتهم إليه لفطانته وحسن تدبيره، حتى غلل أصوله ومواشي كسبه وأمتعته، فيقبض منهم ذلك.ويقوم مولاي عبدالله الشريف بصرف ذلك وفق ما يحتاجون إليه، فيطعم الطعام للمريدين والزائرين ولغيرهم من الوافدين والمارين، ويجازي الوفود بالدراهم والمواشي والفواكه والإدام والثياب ونحو ذلك.يقوم مولاي عبدالله الشريف بهذا بكل ثقة في النفس وورع وتقوى وإتقان.وفي الجانب الفلاحي المرتبط طبيعة بالاقتصاد، طوع مولاي عبدالله الشريف ب”شكرة” أراض خصبة مهملة واستصلحها فصارت بلاد زرع وضرع ومواشي وجنانات وأنواع الفلاحة والنحل، مستعينا بأولاده، فتعلم سكان تلك الربوع على يده فنون الفلاحة بعد جهل عميم، إذ لم يزرع من قبل فيها زرع ولا شجر ولا قطاني، لاشتغال هؤلاء السكان بالتجارة في “الكتان” حيث يصدرونه لأهل فاس.لم يكن اهتمام مولاي عبدالله الشريف باستصلاح الأراضي الزراعية وبغرسها بشتى أنواع الفواكه والخضروات وألوان النباتات والأشجار المثمرة، إلا تدبيرا حكيما منه للشأن الاقتصادي في أهم أسسه وهي الأرض، تلبية للضغط المتزايد بفعل الاتساع الذي عرفته الزاوية، جغرافية ومريدين وزوارا، وبالتالي فتوفير الاكتفاء الغذائي وتوفير المآوي والبيوت وبناء الأروية ومد قنوات الري، وتنظيم العزائب والضياع، وتربية الماشية، كان أول ما اشتغل عليه مولاي عبدالله الشريف.وكنتيجة لم تأتي عمارة دار الضمانة وزان بالساكنة النوعية الوافدة من مناطق مختلفة، إلا كثمرة اهتمام مولاي عبدالله الشريف بمجالات الفلاحة والزراعة والعمارة.ومن أهم ذلك شروعه في بناء الجامع، حيث لم يكن بوزان سوى جامع مثله مثل بيوت المداشر مبني بالجير والطين ومسقف بعود غابوي، فشيد له صومعة يعلوها علم وفنار، ونفار خاص بشهر رمضان، وأقيمت به الصلوات الخمس، حيث صلى الناس وراءه، وخطب ودرس وورق كتب الوعظ والأحكام، وأنفق رضي الله عنه جميع ما بقي تحت تصرفه من إرث أبويه.بتمعننا في المتخلف الاقتصادي الذي تركه مولاي عبدالله الشريف بوزان بعد وفاته، المتمثل وفق الوارد في الروض المنيف، في ثروة ضخمة معتبرة بالنظر لتلك الحقبة، منها ثمانية أرحية، وثلاثة عبيد، و1136 شاة من الغنم، و84 من البقر، وثمانية خيول، وثلاثة حمير.
بتمعننا فيما ذكر فقط من ميراث نستشعر عظمة الرجل الاقتصادية وموقعه المادي المتميز الذي أهله في حياته، لأن يقوم بالمنوط به على المستوى الاقتصادي والتسييري بشكل عام.ألم تتدبروا ما يتداول بين المهتمين بتاريخ العظماء، أن مولانا عبدالله الشربف قد أطعم وسقى وآوى في ليلة واحدة أزيد من 14000 ألف من الخلائق، فافهم الإشارة وإن لم تفهم فلن تغنم ولن تسلم.وفيما يخص وزن الثروة لدى شيوخ الزاوية الوارثين للمشيخة من الجد المؤسس مولاي عبدالله الشريف، نذكر ما كان بحوزة مولاي التهامي (ت1127ه/1715م) من أراض فلاحية بمدشر “المصدر” من قبيلة “سطة” استغلت في زراعة الحبوب، وجنانات وغرسات بوزان، علما أن الموصوف بالشيخ السامي مول السوق الحامي صاحب الجلالة، قد عرف أكثر من غيره بالزهد والتجرد من زينة الدنيا والهرب من مغرياتها، لدرجة أن طبق على نفسه حكم “التهامي ماخصو لا ذهب لا فضة، التهامي خصو غير الما يتوضا” ، كما نقل عنه الثقاة متواترا ومتطابقا.
وفاض ما كان للشيخ مولاي الطيب (ت1181ه/1767م)، من ثروة، منها قطعان من الغنم والبقر وعزيب بنواحي وزان يسمى “بني ماض”، وعزيب بالقصر الكبير وأملاك بتطوان.وإذا عرف مولانا الطيب بضخامة ثروته بعدما تتلمذ تلمذة القادة الكبار على يد شيخه الشيخ السامي مولاي التهامي، إذ لا تكاد تمر بقطر إلا وتجد له فيه ربعا وبساتين وثمارا وأشجارا، فإن مولاي التهامي شغله أمر تأسيس أركان الزاوية أكثر مما شغله جمع الثروة رغم عرضها عليه ووقوعها بين يديه، مخافة أن يلتفت إليها بدل التفرغ لبناء شخصيات مريديه وعلى رأسهم أخوه مولاي الطيب الذي أولاه عناية خاصة تربية وتعليما وتدريبا ليكون خليفته.
ومن الأثر البليغ لتربية مولاي التهامي على أخيه مولاي الطيب قدرة الأخير على توسيع نفوذ الزاوية وتكثير المريدين وجمع الثروة، ومن ذلك مساهمته في غراسة الحوامض بتازة ونواحيها، كالبرتقال والأترنج والليمون بأنواعه، مما كان مفقودا بالمنطقة آنذاك.
إن اهتمام الشيخين الجليلين بالفلاحة وفنونها، أظفى على القبائل وكل المناطق انتعاشا وحركية اقتصادية قل نظيرها، حيث لم تعد تجد بطالا في القرى والمداشر، ولا تجد شابا أو كهلا إلا واشتغل محترفا الفلاحة والرعي والمهن والحرف ذات الصلة بما ذكر.وكذلك كان الشأن لأبيهما مولاي محمد بن مولاي عبدالله الشريف (ت1120ه/1708م) حيث ذكر أنه خلف بعد وفاته حسب ما ذكر في الروض المنيف، ثلاث جنانات، وهي جنان الرحى وجنان الرمل وجنان عين أبي يوسف. وغير ذلك مما لم يذكر ولم يحصى.يتبع…