على امتداد الأزقة العتيقة في فاس ومراكش ومكناس، تقف أبواب ضخمة من الخشب والنحاس، تحمل آثار الزمن وتروي قصصًا عن عصورٍ مجيدة، وأخرى منسية.
بعض هذه الأبواب لا يعرفها سوى كبار السن أو باحثون في التاريخ، فيما تخفي جدران المدن الحديثة ملامحها شيئا فشيئا.
إنها الأبواب المنسية في المغرب — تلك التي كانت يومًا حراس المدن، قبل أن يطويها النسيان.
رمزية الأبواب في الثقافة المغربيةفي الثقافة المغربية، لم تكن الأبواب مجرد منافذ دخول وخروج، بل كانت رمزًا للحماية والهوية.
كانت تصنع بعناية فائقة من خشب الأرز أو الجوز، وتزين بنقوش هندسية وزخارف عربية تروي انتماء المكان.
وفي المدن القديمة كان لكل باب اسم يحمل دلالة خاصة: “باب الفتوح” رمز النصر والانفتاح، “باب الجيات” رمز التجارة والحركة، و”باب الخميس” الذي كان يؤدي إلى الأسواق الأسبوعية.
أبواب فاس.. الذاكرة التي لا تغلق مدينة فاس، أقدم العواصم المغربية، ما تزال تحتفظ بأكثر من عشرين بابا تاريخيًا.
من أبرزها باب الفتوح، الذي بني في القرن الحادي عشر ليكون مدخلًا شرقيًا للمدينة، وباب أبي الجنود الذي استقبل الملوك والعلماء والمسافرين.
لكن بعض الأبواب طمست ملامحها، مثل أبواب صغيرة كانت تؤدي إلى أحياء حرفية أو زوايا صوفية، لا يعرفها اليوم إلا المؤرخون المحليون.
يقول الباحث في التراث الفاسي عبد الهادي التازي في إحدى كتاباته: “كل باب من أبواب فاس هو فصل من كتاب المدينة، وورقة من تاريخها الروحي والعمراني.
”باب أغناو.. حارس مراكش الأزليفي قلب مراكش الحمراء، يقف باب أغناو كتحفة معمارية من القرن الثاني عشر.
بني في عهد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور، وكان المدخل الرسمي إلى القصبة السلطانية.
الزخارف القرآنية والنقوش الأندلسية المحيطة به تحكي عن مرحلة ازدهار فني قل نظيره، ومع ذلك أصبح اليوم مقصدا للسياح أكثر من كونه معلمًا حيًا في ذاكرة المراكشيين.
مكناس.. الأبواب الملكية والنسيانأما في مكناس، المدينة التي شيدها السلطان المولى إسماعيل، فقد كانت الأبواب تعبيرًا عن القوة الملكية والنظام العسكري.
باب منصور لعلج يظل الأجمل والأشهر، لكنه ليس الوحيد.هناك باب البرادية وباب الخميس وباب الجديد، وكلها تحمل آثار حقبة ازدهار عسكري وسياسي.
اليوم، كثير من هذه الأبواب صارت مجرد ممرات عادية، تفقد شيئا من هيبتها أمام زحف العمران الحديث.
الأبواب كذاكرة روحيةلم تكن الأبواب مجرد معالم مادية، بل كان لها بعد روحي وشعائري في المخيال الشعبي.
في بعض المناطق، كان الناس يعتقدون أن إغلاق الأبواب عند الغروب يمنع دخول الأرواح الشريرة، وأن لمس نقوشها يجلب البركة.كما أن العديد من الزوايا الصوفية كانت تعرف بأبوابها الخاصة، مثل “باب الزاوية” أو “باب الفقراء”، دلالة على التواضع والانفتاح على المريدين.
نداء الحجراليوم، ومع اتساع المدن وتغير أنماط العيش، باتت تلك الأبواب المنسية بحاجة إلى من يعيد إليها الاعتبار.
فهي ليست مجرد بقايا عمرانية، بل ذاكرة حيّة لمدنٍ كانت تنبض بالحياة والعبور.
قد لا تتكلم هذه الأبواب، لكنها ما تزال تُنصت بصمتٍ مهيب إلى وقع الخطى التي تمرّ أمامها، تذكّرنا بأن خلف كل حجرٍ في المغرب، حكاية لم تُروَ بعد.