حكمة مولاي عبدالله الشريف في نقل المغرب من “الطامة الكبرى” إلى السيادة العظمى
بقلم: عبدالإله الوزاني التهامي
يعد الموقع الجغرافي للمغرب نقطة محورية للعبور من وإلى الشرق والغرب (وإفريقيا والعالم)، وحلقة متصلة رابطة للجنوب بالشمال، وجسر تلاقح العقائد والحضارات والثقافات، ومجال فسيح لاحتضان الاختلاف البشري في كل مجالات حياة الإنسان.
ورغم تعرض المغرب لاجتياح ثقافة عرقية وعقائدية متعددة، واختراق ما هو دخيل للنفوس الأصيلة، فإن التصوف المغربي وقف سدا منيعا في وجه كل ذلك وتمكن من صون الهوية الأخلاقية العميقة للمغاربة.
لقد عملت الزوايا وعلى رأسها الزاوية الوزانية على الدفاع عن هوية المغاربة المتمثلة في الوطن والدين واللغة والتراث، دفاعا علميا سلميا حكيما يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرق.
ورغم إيماننا باستحالة وجود شعب لم تشهد بناه الاجتماعية تنوعا في التركيبة العرقية، إلا أن الجدير ذكره، أن هذا لم يؤثر على لب وأصالة الهوية المغربية ولم يؤدي بها إلى انحراف أو ذوبان أو اندثار، بل جعل من كل تلك الثقافات الوافدة جزءا منصهرا في الأصل ومكونا مضافا إلى القاعدة المغربية، انطبق ذلك على كل العناصر الوافدة على المغرب، سواء الجنس الإفريقي جنوب الصحراء، أو المشرقي من اليمن أو المصري أو الأندلسي، ونفس الشيء ينطبق على الديانات الوافدة، كاليهودية والمسيحية وغيرهما، فظلت الأصول المغربية راسخة والدين الإسلامي مستمرا على مدى إثني عشر 12 قرنا.
إن التصوف المغربي كما هو معروف مستمد مشربه مباشرة من المعين الأول معين آل بيت النبي سيدنا محمد المرسل رحمة للعالمين – صلى الله عليه وآله وسلم -، مشرب ذوقي وأخلاقي ومادي ومعنوي، وعليه فإن تعلق متصوفة المغرب بالمولى إدريس الأكبر هو تعلق بسيد البشرية المرسل من السماء. لأن الأوربيين الأمازيغ الأقحاح جعلوا من السبط هذا دون غيره قائدا باعتباره من نسل الدوحة الشريفة، وباعتباره قدوة على المستوى الأخلاقي والعقلي والقيادي، وباعتباره الجامع الموحد بين الأعراق والأجناس تحت راية ربانية تسع جميع بني الإنسان، مثلما وسعت رحمة الله كل شيء.
وعلى نفس محجة الأدارسة في خدمة بني الإنسان لم تهتم الزاوية الوزانية بالوظائف النمطية المتجلية في البعد التربوي والسياسي والاجتماعي والفكري فقط، على قدر اتسعاع رقعة امتدادها الجغرافي وتغلغلها المجتمعي، وإنما اهتمت بالشكل الوازن اللآئق بثقلها بما هو عصب الدولة والمجتمع، نقصد هنا الوظيفة الاقتصادية، محددين نطاق الاشتغال على صور من القرنين 17/و18.
فبفضل تراكمها المادي والرمزي عبر مسيرة طويلة من العمل الشاق والمضني خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، اضطلعت زاوية دار الضمانة المؤسسة على يد رجل استثنايي أواسط القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، بتزامن مع فترة تأسيس دولة الأشراف العلويين جنوب المغرب، -اضطلعت- بدور بارز محوري في تحريك وتنشيط الاقتصادات المحلية وتطوير آلياتها وتجديد وسائلها، حتى أصبح لها وقع وأثر عميقين على المستوى المادي التدبيري للقبائل والأسر والعائلات والأفراد على حد سواء.
وبفعل ظروف وعوامل الأمن والاستقرار والطمئنينة التي فرضتها الزاوية الوزانية بواسطة مشايخها ومريديها، غدت وزان كنموذج حاضرة صناعية وعلمية وثقافية، حيث في ظل ذلك تقاطرت على المدينة الكوادر والطاقات والشغيلة من كل صوب، وازدهرت الحرف والصنائع واستصلحت الأراضي، وتنوعت مصادر التجارة، وتكاثرت الأوراش الصناعية، من ذلك دار مصنع الدباغين، ودار مصنع النجارين، ودار مصنع الطرافين، ودار مصنع الخراطين…
هذه الأوراش بدورها تحولت مع مرور الزمن إلى أحياء مستقلة آهلة بالسكان حيث شهدت تطورا سريعا على المستوى الديمغرافي والعمراني.
وسيبرز تأثير دار الضمانة أكثر على أرض الواقع -كما سنرى- عندما سيكون مولاي عبدالله الشريف وجها لوجه مع ظروف خطيرة سيشهدها البلد حيث ستساهم الزاوية بقوة غير مسبوقة في اتخاذ القرار وتثبيت الاستقرار لصالح المجتمع والدولة.
سيشهد المغرب بعيد التحاق السلطان أحمد المنصور السعدي (1012ه/1603م) فترة تهددت خلالها قواعد نظام الدولة المغربية، وتهددت ركائزها الأساسية، و”انهدت أركان الملك به، فاختل النظام وماج الناس”، كما يقول صاحب نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، فحلت على البلاد “الطامة الكبرى”وعسر وتعذر على السعديين إخماد الفتن المشتعلة.
من رحم هذا المخاض المصيري الخطير، سيشرق على المغرب نور مولانا عبدالله الشريف، حاملا راية الولاية الروحية، جعل من عقبات الواقع المرير طريقا ذليلا فتح أمام عامة الناس آفاقا رحيبة وآمالا رحيمة، فذاع صيته وعلا شأنه وازدادت هيبته، بفعل ملامسته لمعاناة الناس المادية وتلبيته لرغباتهم الفطرية على اختلاف شرائحهم، وبفعل جمعه بين ما هو مادي وما هو لامادي، وبفعل بنائه لإنسان متوثب نشيط يؤمن بالإجرائية والواقعية بعيدا عن الاتكالية والمثالية الحالمة.
يتبع…